تلك مأساة بشرية شاعرية .. بطلها أمير شعراء الجاهلية امرؤ القيس بن الحارث الكندى الذى يتأهب لمغادرة الديار ويتحسر ليلة الفراق وهو لازال فى مضاربه وبين قومه “كأنى غداة البين يوم تحملوا لدى سمرات الحى ناقف حنظل
كأدبك من أم الحويرث قبلها وجارتها أم الرباب بمأثل
وإن شفائى عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول …”
فأهل الحى يتسامرون وهو يشعر كأنه يبلع الحنظل شديد المرارة كالعلقم لكن ما يعزيه أنه خلال رحلته فى وديان اليمن وبين جبالها سوف يتوقف ليلتقى بأم (الحويرث) تصغير الحارث وربما يلتقى بجارتها الحنون (أم الرباب) فيهون عليه وحشة الطريق ومغبة الحل والترحال ويخفف من وعثاء السفر!
لا أدرى إذا كان ينتابك الحنين لأن تعيش فى جلباب امرئ القيس لساعات قصار فهو يتأهب لرحلته التى لا غنى عنها للعربى الجاهلى يصحبه العبيد ويتوقفون بعد أن يقطعون ثلاثون ميلا على ظهور الإبل على الأقل للراحة والتقاط الأنفاس. لابد أنه انطلق فى الرحلة بمفرده فبينما هو على جواده يقطع الفلوات والبيد والفيافى يكتشف أن هناك ذئب شارد يشاركه وحشة الطريق من نهار مسفر وليل بهيم.
لابد أن امرؤ القيس كان حزينا ربما لمصرع أبيه على يد القبائل التى تمردت عليه وكانت تلقب (عبيد العصا).
” ووادي كجوف العير قفر قطعته به الذئب يعوى كالخليع المعيل
فقلت له لما عوى إن شأننا قليل الغنى إن كنت لما تمول
كلانا إذا ما نال شيئا أفاته .. ومن يحترث حرثى وحرثك يهزل ..!”
نظر إلى الذئب الهزيل من الكر والفر ومطاردة الفرائس فى التيه الواسع فخاطبه مثل عنترة العبسى حين كان يحاور جواده فى خضم المعارك والنزال
” فازور من وقع القنا وشكا إلى بعبرة وتحمحم
لو كان يدرى ما المحاورة اشتكى .. ولكان قد علم الكلام مكلمى!”
الأمير الضال امرؤ القيس كما لقب أحيانا بسبب حياة الاسترخاء والدعة التى ركن إليها فأبوه يكفله بالمال والجاه والحاشية فليس لديه رئيس ينفيه أو دوام يقصيه أو معاش يشقيه.حتى أنه حين بلغه نبأ مقتل أبيه وكان يسمر ويحتسى قدحا من عصير العنب المعتق صاح “ضيعنى صغيرا وحملنى دمه كبيرا .. اليوم خمر وغدا أمر “. يقال كان له عشرة أشقاء إلا أن أباه اختاره لينتقم ويثأر له .. ربما ليكفر عن حياة الرخاء والترف التى ركن إليها فى صباه. أما عن رحلته ليلتقى بقيصر الروم يسأله العون والدعم ليقتص لمصرع أبيه فتلك قصة أخرى !
حاشية : يجب التنويه أن (الرسم) يعنى الأطلال أو آثار الديار التى رحل أهلها أما
(المعول) فهو من يبكى على طلل أو يحزن على ماضى مجيد وحبيب فقيد وأمل بعيد!
د. يحي عبد القادر حسن/ القاهرة