عاد التلاميذ قبل أسابيع إلى مقاعد الدراسة، بعد مسلسل من المناسبات التي تكتلت على المواطن الجزائري، ما جعل التلميذ يدفع الضريبة، وهناك من تحمل المسؤولية كاملة، طالما الأولياء عجزوا عن تلبية كل الضروريات، حيث صنع شغف الدراسة لدى الكثير من التلاميذ ملاحما فجرّت على قوارع الطرقات ورسمت سيمفونية خاصة تألم لها البعض، كما فرح لها البعض الآخر طالما هي تحمل في طياتها معاني التحدي رغم قساوتها.
قبل أيام تجوّلنا في عدة بلديات داخل الوطن، لاسيما بولاية بجاية، وشمال ولاية سطيف، وحتى العاصمة حيث وجدنا الشوارع مملوءة بالصخب والضجيج باكرا، ليس لازدحام المركبات أو ضجيج المارة في الطرقات، بل هو ديكور خاص صنعه أطفال في عمر الزهور ومراهقين شباب على حواف الطرقات في مشهد لا نجده الا في الأسواق الشعبية، وهدفهم هو تحصيل –دريهمات- تمكنهم من الولوج الى المؤسسات التربوية بجهاز الأدوات والمحافظ وكذا اللباس وعلى رأسها المآزر، الصورة تعكس العوز الكبير الذي تتخبط فيه العائلات في أعماق الجزائر وخاصة في المناطق المعزولة والتي تعتمد اساسا على ما تنتجه حقولهم من خضروات وفاكه موسمية، هذا اذا غضضنا أبصارنا على ظاهرة عمالة الأطفال في مختلف المصانع والمؤسسات الإنتاجية المنتشرة بكثرة..
الظاهرة ألفتت انتباهنا فحاولنا أن ننقل تحدي هؤلاء الأطفال الذين يطمحون لتحقيق دخول مدرسي مغطى من كل الجوانب، خاصة وأن الوضع الاجتماعي متأزم دخلت فيه العديد من العائلات أمام نفاذ ذخيرة سنة كاملة لمن يملكها بعد ان تكتلت المناسبات واحدة تلوى الأخرى فبعت موائد رمضان المكلفة وملابس العيد المجهدة واضحية العيد التي لم ينالها الكثير هذه المرة جاء دور الدخول المدرسي المرهق.
يغادرون منازلهم قبل الثالثة صباحا
اقتربنا من بعض الأطفال الذين وجدناهم في قمة الإرهاق، حيث سألناهم عن سر ذلك، ما دمنا في الصبيحة، فنظر إلينا الطفل “ب.ح” مبتسما فقال:”نحن قضينا نصف يومنا، لقد خرجنا على الساعة الثالثة صباحا من ديارنا، وهذه السلعة –يقصد بها التين- قبل أن تصل إلى هنا كان وراءها جهد كبير، و جلبنها وسط الأحراش و الأشواك في الحقول البعيدة عن هذا المكان بكيلومترات ..” ليفاجئنا هذا الطفل الذي لم يتجاوز الـ 15 سنوات بقوله “هذا كله من اجل اقتناء الأدوات المدرسية” لأن والده أوصاه بأن يبحث عن سبل تمكنه من اقتناء الأدوات و المحفظة مصارحا ابنه بأنه غير قادر على تلبية كل الضروريات طالما أثقلت كاهله المصاريف الأخرى، التي أعتبرها اكثر ضرورة من الأدوات المدرسية.
الأمر سيّان، بالنسبة للطفل “ن.ع” المقبل على السنة الثانية متوسط، أكد بانه منذ عشرة أيام من الآن و هو ينهض من النوم قبل الثالثة صباحا حيث يتكفل بمتاعب جني التين و نقلها لمسافة تفوق 3 كلم و بيها رفقة أخيه الصغير المقبل هو كذلك على السنة الخامسة ابتدائي، حيث يقومان بهذا الجهد كله لوحديهما يوميا.
كرونولوجيا متاعب الطفولة هناك ..
متاعب هؤلاء التلاميذ ليست وليدة الدخول المدرسي الحالي، بل تعود الى نهاية الموسم الماضي، حيث ما ان تغلق أبوابها المدارس ايذانا بدخول العطلة الصيفية يبدأ التلاميذ سيما منهم الطور الثانوي والمتوسط رحلة بحث عن عمل يضمن لهم تحقيق بعض “الدريهمات” من أجل مجابهة الدخول الاجتماعي، ومع بداية الدخول المدرسي بدأت عقود هؤلاء تفسخ طبعا دون سابق تأمين ولا هم يحزنون، لان توظيف الأطفال بحد ذاته غير قانوني، وحين حديثنا مع بعض مالكي المصانع والمؤسسات الانتاجية، أكدوا لنا بأن العاملين لديهم من فئة التلاميذ يتقدمون بوساطة من أولياءهم من أجل تحقيق مداخيل الدراسة والتي أثقلت كاهلهم بسبب الوضعية الاجتماعية القاسية، ولما اخبرا بعضهم بعدم قانونية الاجراءات برر المتحدثون بان التلاميذ يتم توجيههم للعمل في تخصصات خفيفة، وقد اسر لنا بعض الأولياء الآخرين آلامهم و هم يحسون باكبادهم تتقطع للحال الذي هو عليه ابناؤهم و لكن لا حول ولا قوة لهم.
منتوجات موسمية تنقذهم من التسرب
لحسن الحظ، منّ الله على أبناء هذه المناطق، ففي المنطقة الشمالية لولاية سطيف التي تضمن ازيد من 13 بلدية معزولة لم يجد المئات ان لم نقل الآلاف من التلاميذ حلا لمجابهة كل الظروف المذكورة من قبل سوى حواف الطرقات أمام مداخل الولاية والدوائر الكبرى التي تبعد عنهم بعشرات الكيلومترات حيث ينقلون بعض المنتوجات الموسمية التي جادت بها حقولهم مثل التين والتوت البري والذرى بحيث تجد دلاء متعددة الأشكال والأحجام وحتى الألوان مليئة بهذه الفاكهة بغرض بيعها وبأثمان تكون في الغالب رمزية وتقل على تلك التي نعثر عليها في الأسواق والمحلات والهدف منكل ذلك هو توفير دراهم معدودات لضمان دخول مدرسي بأخف الأضرار.
وفي الولايات المجاورة لولاية سطيف خاصة الجهة الجنوبية يعمد التلاميذ الى تحويل قوارع الطرقات مكانا لبيع الذرى بنوعيها الطازجة والمشوية على المسافرين سيما في الفترة المسائية ويؤكد عدد من الاطفال بأنهم وجدوا انفسهم امام حتمية امتهان هذا النشاط لتوفير مصاريف الدراسة والا فالانقطاع عنها بعد عجز الأولياء على توفير مستلزمات الدراسة.
طاولات التبغ والحلويات .. أسلوب آخر
أطفال الحضر بدورهم امتهنوا التجارة المؤقتة عبر الشوارع والأحياء والأسواق من خلال بيع نصب بعض طاولات التبغ والحلويات، و حتى “المطلوع” أصبح سلعة معروفة في السوق و التي أدخلها هؤلاء الأطفال في صورة تؤكد بأن تلامذتنا أصبحوا يعتمدون على أنفسهم لتوفير مستلزمات الدراسة في حين تبقى الفتيات وصغار السن ينتظرون هبات التمدرس التي كثيرا ما تكون مفتاحا لفرج البعض رغم محدوديتها، و التي ينتظرها الأولياء بشغف كبير و تلك الطوابير التي صنعوها في البلديات لاستخراج الوثائق اللازمة للحصول عليها مؤخرا الماضية دليل واضح على ذلك.
نجباء يروون قصصهم بحسرة وألم
كم كانت فرحة بعض التلاميذ كبيرة لما عرفوا بأن الصحافة تحاول التقرب منهم بحيث بدأ الطفل “عماد، أ” الذي ينحدر من منطقة الموان و هو أحد الناجحين في شهادة التعليم المتوسط بمعدل 15،33 وجدناه يبيع حبات البطيخ الأصفر الذي جناه من أحد حقولهم بالمنطقة قائلا:”أنا من عائلة فقيرة، لم افرح كثيرا لنجاحي في شهادة المتوسط لاني أعلم ما ينتظرني خلال العطلة، وليست هذه هي المرأة الأولى التي أعمل فيها لتأمين الدخول المدرسي، منذ سنوات وأنا اعتمد على نفسي من أجل شراء الألبسة والأدوات المدرسية،أبي يعمل في محل لبيع مواد البناء ومنحته الشهرية التي لا تتجاوز 9000دج لا تكفينا حتى في تحقيق لقمة العيش باعتبارنا نعيش بتعداد 11 فردا في العائلة”، ذات الأمر بالنسبة “لأنيس ك” المتحصل على معدل 16.23 في شهادة التعليم المتوسط الذي صح قائلا:”انا و اخي أكرم –الذي كان بجانبه بمدخل مدينة بوقاعة- يتيمين وأمي ليست عاملة ولا مصدر لنا سوى بعض مساعدات المحسنين ، ننهض باكرا ونوجه الى بساتيننا من اجل قطف ثمار التين لبيعها للمتوجهين نحو عاصمة الولاية باثمان تتراوح ما بين 100 الى 150 دج للدلو الواحد او السلة الواحدة وهذا من أجل شراء الملابس والأدوات لأن مساعدة الدولة لا تكفينا لشراء كل شيء”، و بين عماد وأنيس كان العشرات يحترقون تحت حرارة شديدة لجلب دريهمات تمكنهم من الوصول الى مقاعد الدراسة.
تطليق الدراسة قناعة بعض التلاميذ
حاولنا الاقتراب من مجموعة أخرى تتكون من 8 أطفال على قارعة طريق الوطني رقم 75 بمنطقة عين الروى وهم يرتدون ملابس رثة يمتلكون نظرات حادة وسلوكا عدوانيا، و صرخاتهم ملأت المكان مستعملين ألفاظا تخص الكبار وكأنهم رجال تحملوا قساوة الدنيا وتعرضوا لمشكلاتها وهمومها رغم صغر سنهم، حيث صدمنا بواقع صعب جدا، لاسيما أنهم يخفون تحت ملابسهم سكاكين قاموا باقتنائها لغرض حراسة ممتلكاتهم، وأي ممتلكات مجرد طاولة فيها بعض السجائر عرضت للمارة من هناك .. تمكنا أخيرا من الحديث إليهم وكان كلامهم يعبر عن متاعب كثيرة تتخلل حياتهم وقضت على طفولتهم وأفكارهم البريئة. وحينما أردنا مداعبتهم نظر إلينا أحدهم باستهزاء ولم يقبل منا معاملته كطفل لأنه رجل على حد تعبيره، ثم انصرف الصغير بسرعة لم نعرف حتى اسمه في خبايا أحد المزابل المجاورة، لعله يجد شيئا يعيد إليه بسمته وطفولته الضائعة وسط الصعاب والروائح الكريهة، والكلاب الضالة والحيوانات الخطيرة التي قد تتسبب عضة منها في فقدانه للحياة، و عن هؤلاء أحدهم بأنهم شكلوا تحالفلا و اتفقوا بأنهم لن يعودا الى المدرسة و انهم طلقوا الدراسة نهاية الموسم الماضي و أنهم كرهوا من متاعبهم و عدم تمكنهم من مزوالة الدراسة و بالتالي الشارع أفضل بالنسبة لهم.
تلاميذ يبيعون التين، الذرة، المطلوع والتوت البري لاقتناء مستلزماتهم!
رابط مختصر
المصدر : https://elzamaninfo.com/?p=536