إلى جنة الفردوس أيها الحكيم

2020-01-25T23:26:02+01:00
2020-01-25T23:26:06+01:00
راي
فتحي شفيق25 يناير 2020آخر تحديث : منذ 5 سنوات
إلى جنة الفردوس أيها الحكيم
82572294 2895889143780883 3788857644148588544 n - El Zaman Info

بوح على هامش الوفاة…
وفاة الدكتور الشيخ عشراتي حبست أنفاسي وجمّدت الدم في عروقي، وأعجزتني عن التفكير، وحرقة الفرقة قبل اللقاء أصابتني في مقتل..
كلمني الرجل عن مرضه لكني لم أتصور لحظة أنه المرض الذي سينهي حياته وهو الذي قاوم المرض قبلها بسنوات..
تذكرت ما قال لي ذات يوم في مشفى باينام “مازالت لي بضعة أشهر معكم فقط” ..
لكن الرجل والحمد لله عاش بعدها سنوات.. وزرته في بيته والحمد لله بمعية العائلة وأكرم وفادتنا مع رِفقة طيبة وجدتها عنده من زملائه في الدراسة والمهنة النبيلة.. لقد كانت رحلة ممتعة وإقامة طيبة وآدبا كريما أصيلا
اكتشفت حينها أن بيت الحكيم بيت الكرم الطائي، والعيادة المفتوحة لجميع المرضى الميسورين والمعدومين.. الدكتور كان طبيبا مداويا رحيما كريما لم يكن تاجرا … الحكيم كان بدويا راسخا في البداوة الجميلة بكل عبقها وكرمها ونخوتها وشرفها..
خرجت من البيت على وقع خبر المصيبة شارد الذهن لا أعرف إلى أين أذهب فأنا وحيد في هذه القرية التائهة بين حضارتين، مشيت حائرا في هذه المدينة الحائرة في هويتها، سلكت طريقا لم يسبق لي أن سلكته من قبل، ومضيت ولا أدري إلى أين أمضي..
كان الطريق خاليا من المارة لقساوة البرد الحارقة.. أو ربما أنا الذي لم أكن أرى شيئا من حولي ولا أسمع إلا ضجيج السيارات والصرر .. مشيت أنظر في كل الواجهات لكنني لم أكن أرى شيئا، لا أرى إلا صورة الشيخ عشراتي تتابعني تماما كما ظل يتابع أخباري ويسأل عني متعاطفا..
فجأة شعرت بقطرات دافئة تنهمر على خدي، يا إلهي هل أصبح المطر دافئا في هذا الجو القارس.. أبدا لقد كانت دموعا جادت بها عيناي في تناغم مع الذاكرة وهي تسترجع مكالمة الدكتور ذات يوم يقترح علي اقتسام أجرته حتى يفتح الله علي..
الله أكبر لقد مات الشيخ
لم أعد أرى العمارات ولا السكنات وسط المدينة إنها أشجار “السرو” (البستان) الفارهة الطول الموغلة في الخضرة الداكنة تخفي جذوعها وراء جدار متقن البناء تحفظ شيئا هاما وقد يكون ثمينا، وها هي تعانق مسجدا صغيرا.. إنها مقبرة تمتد على طول الطريق.. سبحان الله إني أراها رأي العين بكل ألوان الطيف تذكرني بكل من رحلوا ..
أطل علي الشيخ بابتسامته المعتادة، فنظرت في تقاسيم وجه، استرجع آخر كلامه عندما سألته عن صحته:
“أنا في مشفى وهران. يحاول زملائي التخفيف عني. صعوبة تنفسي والبحة في صوتي جعلتني أحظر الهاتف و الزيارات. حتى لا يزداد أهلي هلعا. لكن. بالمقارنة. أنا اتحسن”..
تلاشت صورة الدكتور في عمق المقبرة لتفسح لي المجال لاكتشاف تفاصيلها، التي لم تكن تختلف عن باقي مقابر هذه البلاد في جمالها وتنظيمها وصيانتها، وخصوصياتها، القبور هنا
مختلفة وشكل العمائم وحجمها تكشف لك هوية صاحب القبر ومكانته الدينية والعلمية..
المقابر هنا جميلة مرتبة نظيفة مزينة بالأشجار الفارهة والورود المختلفة الألوان والأشكال مسيجة بجدران آية في الاتقان، مقابر للتطبيع بين الحياة والممات.. تشجع الإنسان على الموت وتحببه فيه، فيفضل الموت الجميل هنا عن العيش في جحيم الوطن.. يا إلهي ما أجمل الموت هنا بعيدا عن الاستبداد والاستعباد والحقرة والقهر والظلم.. والتخوين والتشويه والفتنة والاستحمار والكذب والنفاق والخساسة وكل آفات الدنيا التي استبدت بالوطن.. ما أريح أن يموت المرء هنا ميتة واحدة خير من أن يموت في الوطن في اليوم ميتات عديدة
ما زال الموت هنا محترما محتفظا بكل قيمه، ومصيبة تتمتع بكل الاحترام الذي يليق بها.. أهل الهالك يوزعون “الحلوى اللذيذة على المشيعين” صدقة جارية على فقيدهم، ودعوة للدعاء له بالرحمة والجنة..
فاللهم أسكن الدكتور جنة الفردوس وألهم ذويه جميل الصبر والسلوان، وأرحم آبائي وأهلي وكافة موتى المسلمين..
سبحان الله كل ما أراه في طريقي يذكرني بالموت، هذا مقام الولي الصالح “الحاج بكتاش والي” صادفت هذا الإسم في أكثر من مكان، يبدو شخصية يحترمها كثيرا أهل البلدة ويمجدونها.. فمن يكون..؟
بكتاش أو بقطاش، مثل اسم الكاتب الجزائري الكبير والأديب المحترم والمترجم الرائع مرزاق بقطاش، هو رجل دين وشاعر متصوف، وفيلسوف إسلامي من الزمن السلجوقي، ويقال بأنه ولد في خراسان وإليه تنسب الطريقة البكتاشية الصوفية.. وترك العديد من الكتب والمؤلفات الدينية، وهو صاحب العديد من الأمثلة والحكم التي يرددها أهل البلد إلى يوم الناس هذا.. مزار الشيخ وضريحه في “نف شهير” تحول الى متحف يزوره الملايين سنويا صنفته اليونسكو من الآثار العالمية.
إسم بكتاش المخلد في الشوارع والمؤسسات والميادين وقلوب الناس يعطي بعدا آخر للحياة ومعنى مغايرا للموت.. واصلت المشي على طول شارع أستاذه الروحي أحمد يوسفي بدأت أشعر بعبء كبير يثقل كاهلي.. تثاقلت قدماي ولم أعد أقوى على الوقوف نظرت إلى آخر الجادة فرمقت جسرا بين العمارات والسيارات تخرج من العمارات ذهابا وإيابا أسرابا أسرابا، قلت في قرارة نفسي ربما السراب من طول المشي وعمق الأسى ووقع الحزن..
بلى إنه الطريق السيار على مشارف قرية بكر.. يا إلهي لقد قطعت كل هذه المسافة ولم أشعر.. لم أعد أقوى على أي خطوة أخرى فجلست في محطة الحافلة انتظر لأقفل عائدا إلى البيت..
غابت الشمس ولم يظهر الشفق، حجبت الغيوم والسحب كل شيء في هذا اليوم المغشى بالأسى، تماما كما حجب الموت عنا الشيخ عشراتي الذي لن يكتب لي أن أراه في رحلتي القادمة كما وعدته، لكنني سأزوره.. وسنلتقي بعد الرحلة الأخيرة إن شاء الله..
إلى اللقاء أيها الحكيم الرجل الطيب..
الطريق ما زال شاقا أخي العزيز والظرف عصيب وسنبقى نسير حتى يأتينا اليقين، و.. “ليقضي الله أمرا كان مفعولا.. وإلى الله ترجع الأمور”

أخوك نصرالدين قاسم

رابط مختصر

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق