“لازم تتربوا ..” لم ينهى أستاذنا (راشد أبو رية) معلم اللغة العربية تلك العبارة حتى أزاح
نظارته السوداء الكلاسيكية التى تشبه نظارة صلاح نصر رئيس المخابرات المصرية ماركة
بيرسول. سيطر الغضب على (أبو ريه) وهو يهز عودا من الخيزران المرن فى يمينه وقد
أقسم أن يعاقب كل منا طلاب الثانوية العامة – فى مدرسة التوفيقية الشهيرة بحى شبرا –
بالضرب على كفيه.
استولى علينا الفزع .. لكن أين المفر؟ الرجل منذ قليل كان يشرح لنا (عبقرية الصديق)
للكاتب الإسلامى الشهير عباس محمود العقاد … يبدو أن أحد الزملاء إبتسم أو ضحك
حين كان أستاذنا (أبو رية) يمتطى المقعد الخشبى محاكيا أبو بكر الصديق وهو يمتطى
راحلته خلال صحبته للرسول عليه الصلاة والسلام فى رحلة الهجرة إلى المدينة المنورة.
لكن ما باليد حيلة !
إمتحانات الثانوية العامة سوف تحل بعد بضعة أسابيع … قررنا أن نستسلم للضرب إلا
الزميل (شادى عامر) الذى صاح محتجا بصوت مرتفع …
- أنا مش ها اضرب
استولت الدهشة علينا فالخيزران فى يمين (أبو رية) كانت تهوى على كفوفنا ونحن نتلوى
من قسوة الألم.
- نعم ياسيدى .. مش عايز تتضرب؟
بلعت ريقى بصعوبة وتوقعت مزيدا من التنكيل حيث أن (شادى) يجلس بجوارى إلا أنه
ثبت منظاره الطبى بيسراه كما يفعل عادة وقد إحمر وجهه. إرتفع صوت (شادى) من
جديد ..
- أيوه مش ها أضرب
- يبقى لازم تتربى
- أنا مريض بالقلب … لو ضربتنى ممكن أموت !!!
صدمتنا المفاجأة …( شادى) زميلنا المحبوب قد يموت نتيجة تعرضه للضرب على كفيه !
توقف (أبو رية) فى منتصف الفصل وكان قد تقدم ليلقن (شادى) درسا قاسيا. شعرنا كلنا
بالتعاطف مع (شادى) إلا أن (أبو رية) إنطلق يكمل مهمته المقدسة بضرب الطلاب
بالخيزران الجهنمية ماعدا (شادى) الذى هدده بالسقوط ميتا وسط قاعة الدرس !
تذكرت تلك الواقعة وأنا أشاهد صورته على صفحات الحاسوب خلال حفل زفافه الرائع
الذى أقيم وسط حدائق غناء ومروج زهراء.
إنطلق (شادى) فى دنيا الأعمال وصار من مشاهير المدينة … يلعب البريدج بصحبة
عمر الشريف ويخالط النبهاء والوجهاء. مفاجأة سارة حين اتصل بى نهار الجمعة ليخبرنى
أنه يقرأ مجموعة كتب صدرت حديثا تستعرض مؤلفات عالمية بلغة سلسة وفكر مستنير.
حذرنى من التهاون فى مواجهة الجائحة التى باغتتنا منذ البارحة. سررت حين أخبرنى
أنه سوف يهدينى نفس المجموعة من الكتب العصرية وربما يصاحب الكتب قارورة من
زيت الزيتون أو قدحا من العسل المصفى.
من يدرى كيف كان مسار حياة (شادى) لو أن (أبو رية) أصر على أن يعاقبه بالخيزران
الجهنمية التى خلفت فى ذاكرتنا آلام لا تمحى!! رحم الله أبو رية.
د.يحي عبد القادر حسن / كاتب مصري